الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ عَنْ حُكْمِ "الفَسَادِ فِي الْأَرْضِ"، الَّذِي ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: " {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} " أَعْلَمَ عِبَادَهُ: مَا الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لَا جَزَاءَ لَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْقَتْلُ، وَالصَّلْبُ، وَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، أَوِ النَّفْيِ مِنَ الْأَرْضِ، خِزْيًا لَهُمْ. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَتُبْ فِي الدُّنْيَا، فَعَذَابٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا أَهْلَ مُوَادَعَةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَعَرَّفَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ فِيهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} "، قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَخَيَّرَ اللَّهُ رَسُولَهُ: إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْتُلَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيثَاقٌ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَقَطَعُوا السَّبِيلَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَخَيَّرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ، فَإِنْ شَاءَ قَتَلَ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا قَالَ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} " إِلَى "أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ. وَلَيْسَتْ تُحْرِزُ هَذِهِ الْآيَةُ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْحَدِّ. إِنْ قَتَلَ أَوْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ أَوْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ فِيهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ عُرَيْنَةَ وَعُكْلٍ، ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. [ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ]: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رُوحُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، «عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ وعُرَيْنَةَ، أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أَهْلُ ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، وَإِنَّا اسْتَوْخَمْنَا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَوْدٍ وَرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهَا فَيَشْرَبُوا مِنَ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ. فَأُتِيَ بِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا فَذُكِرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ: "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ".» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رُوحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ وَسُئِلَ عَنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ الْمُحَارِبِينَ فَقَالَ: «كَانَ نَاسٌ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: نُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ! فَبَايَعُوهُ وَهُمْ كَذَبَةٌ، وَلَيْسَ الْإِسْلَامَ يُرِيدُونَ. ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا نَجْتَوِي الْمَدِينَةَ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذِهِ اللَّقَاحُ تَغْدُو عَلَيْكُمْ وَتَرُوحُ، فَاشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا. قَالَ: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ جَاءَ الصَّرِيخُ، فَصَرَخَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَسَاقُوا النَّعَمَ! فَأَمَرَ نَبِيُّ اللَّهِ فَنُودِيَ فِي النَّاسِ: أَنْ "يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي"! قَالَ: فَرَكِبُوا، لَا يَنْتَظِرُ فَارِسٌ فَارِسًا. قَالَ: فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَثَرِهِمْ، فَلَمْ يَزَالُوا يَطْلُبُونَهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ مَأْمَنَهُمْ، فَرَجَعَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَسَرُوا مِنْهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" الْآيَةُ. قَالَ: فَكَانَ نَفْيُهُمْ: أَنْ نَفَوْهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ مَأْمَنَهُمْ وَأَرْضَهُمْ، وَنَفَوْهُمْ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَتَلَ نَبِيُّ اللَّهِ مِنْهُمْ، وَصَلَبَ وَقَطَعَ، وَسَمَلَ الْأَعْيُنَ. قَالَ: فَمَا مَثَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ. قَالَ: وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ، وَقَالَ: لَا تُمَثِّلُوا بِشَيْء». قَالَ: فَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ بَعْدَ مَا قَتَلَهُمْ. قَالَ: وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُمْ نَاسٌ مِنْ بَنِي سَلِيمٍ، وَمِنْهُمْ مِنْ عُرَيْنَةَ، وَنَاسٌ مِنْ بَجِيلَةَ [ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ]: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: «قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ مِنْ عُرَيْنَةَ، حُفَاةٌ مَضْرُورِينَ، فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا صَحُّوا وَاشْتَدُّوا، قَتَلُوا رِعَاءَ اللِّقَاحِ، ثُمَّ خَرَجُوا بِاللِّقَاحِ عَامِدِينَ بِهَا إِلَى أَرْضِ قَوْمِهِمْ. قَالَ جَرِيرٌ: فَبَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُمْ بَعْدَ مَا أَشْرَفُوا عَلَى بِلَادِ قَوْمِهِمْ، فَقَدِمْنَا بِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: "الْمَاءَ"! وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "النَّارُ"! حَتَّى هَلَكُوا. قَالَ: وَكَرِهَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَمْلَ الْأَعْيُنِ، فَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} " إِلَى آخِرِ الْآيَة». حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ح، وَحَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ سَمْعَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «أَغَارَ نَاسٌ مِنْ عُرَيْنَةَ عَلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَاقُوهَا وَقَتَلُوا غُلَامًا لَهُ فِيهَا، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُخِذُوا، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُم». حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَوْ: عَمْرٍو، شَكَّ يُونُسُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ آيَةُ الْمُحَارَبَةِ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَدِمَ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ مِنْ عُكْلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمُوا، ثُمَّ اجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا. فَفَعَلُوا، فَقَتَلُوا رُعَاتَهَا، وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ. فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثَرِهِمْ قَافَّةً، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فَلَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا». حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانُوا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْ عُرَيْنَةَ، وَثَلَاثَةً مِنْ عُكْلٍ. فَلَمَّا أُتِيَ بِهِمْ، قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ، وَتَرَكَهُمْ يَتَلَقَّمُونَ الْحِجَارَةَ بِالْحَرَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِي ذَلِكَ: "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ"»، الْآيَةُ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَنَسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَسٌ يُخْبِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ الْعُرَنِيِّينَ، وَهُمْ مِنْ بَجِيلَةَ. قَالَ أَنَسٌ: فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ، وَأَخَافُوا السَّبِيلَ، وَأَصَابُوا الْفَرْجَ الْحَرَامَ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا"، قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي سُودَانِ عُرَيْنَةَ. قَالَ: أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِمُ الْمَاءُ الْأَصْفَرُ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَأَمَرَهُمْ فَخَرَجُوا إِلَى إِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: اشْرَبُوا مِنَ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا! فَشَرِبُوا مِنَ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، حَتَّى إِذَا صَحُّوا وَبَرَأُوا، قَتَلُوا الرُّعَاةَ وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُعَرِّفَهُ حُكْمَهُ عَلَى مَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، بَعْدَ الَّذِي كَانَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُرَنِيِّينَ مَا فَعَلَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَصَصَ الَّتِي قَصَّهَا اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَعْدَهَا، مِنْ قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْبَائِهِمْ، فَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَوَسِّطًا، مِنْ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ فِيهِمْ وَفِي نُظَرَائِهِمْ، أَوْلَى وَأَحَقُّ. وَقُلْنَا: كَانَ نُزُولُ ذَلِكَ بَعْدَ الَّذِي كَانَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُرَنِيِّينَ مَا فَعَلَ، لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالْآيَةِ لِمَا وَصَفْنَا، فَتَأْوِيلُهَا: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، أَوْ سَعَى بِفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ- يَقُولُ: لَسَاعُونَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَقَاتَلُوا النُّفُوسَ بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَغَيْرِ سَعْيٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ حَرْبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّمَا جَزَاؤُهُ: أَنْ يُقَتَّلُوا، أَوْ يُصَلَّبُوا، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْحَالِ الَّتِي ذَكَرْتَ: مِنْ حَالِ نَقْضِ كَافِرٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَهْدَهُ وَمِنْ قَوْلِكَ إِنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ، دُونَ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؟ قِيلَ: جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ حُكْمَ مَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا مِنْ أَهْلِ ذِمَّتِنَا وَمِلَّتِنَا وَاحِدٌ. وَالَّذِينَ عُنُوا بِالْآيَةِ، كَانُوا أَهْلَ عَهْدٍ وَذِمَّةٍ، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي حُكْمِهَا كُلُّ ذِمِّيٍّ وَمِلِّيٍّ، وَلَيْسَ يَبْطُلُ بِدُخُولِ مَنْ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ مِنَ النَّاسِ، أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا نُزُولُهَا فِيمَنْ نَزَلَتْ فِيهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي نَسْخِ حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُرَنِيِّينَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ حُكْمٌ مَنْسُوخٌ، نَسْخَهُ نَهْيُهُ عَنِ الْمُثْلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَعْنِي بِقَوْلِهِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} " الْآيَةُ. وَقَالُوا: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِتَابًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا فَعَلَ بِالْعُرَنِيِّينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُرَنِيِّينَ، حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي نُظَرَائِهِمْ أَبَدًا، لَمْ يُنْسَخْ وَلَمْ يُبَدَّلْ. وَقَوْلُهُ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} " الْآيَةُ، حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ فِيمَنْ حَارَبَ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا بِالْحِرَابَةِ. قَالُوا: وَالْعُرَنِيُّونَ ارْتَدُّوا، وَقَتَلُوا، وَسَرَقُوا، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَحُكْمُهُمْ غَيْرُ حُكْمِ الْمُحَارِبِ السَّاعِي فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَوِ الذِّمَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَسْمُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَ الْعُرَنِيِّينَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَرَادَ أَنْ يَسْمُلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نَبِيِّهِ، يُعَرِّفُهُ الْحُكْمُ فِيهِمْ، وَنَهَاهُ عَنْ سَمْلِ أَعْيُنِهِمْ. ذِكْرُ الْقَائِلِينَ مَا وَصَفْنَا: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: ذَاكَرْتُ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ مَا كَانَ مِنْ سَمْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرْكِهِ حَسْمَهُمْ حَتَّى مَاتُوا، فَقَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَجْلَانَ يَقُولُ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاتِبَةً فِي ذَلِكَ، وَعَلَّمَهُ عُقُوبَةَ مِثْلِهِمْ: مِنَ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَالنَّفْيِ، وَلَمْ يُسْمِلْ بَعْدَهُمْ غَيْرَهُمْ. قَالَ: وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ ذُكِرَ لِأَبِي عَمْرٍو، فَأَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ مُعَاتِبَةً، وَقَالَ: بَلَى، كَانَتْ عُقُوبَةُ أُولَئِكَ النَّفَرِ بِأَعْيَانِهِمْ، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُقُوبَةِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ حَارَبَ بَعْدَهُمْ، فَرُفِعَ عَنْهُمُ السَّمْلُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُتِيَ بِهِمْ يَعْنِي الْعُرَنِيِّينَ فَأَرَادَ أَنْ يَسْمُلَ أَعْيُنَهُمْ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِمُ الْحُدُودَ، كَمَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيالْمُسْتَحِقِّ اسْمَ "الْمُحَارِبِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ"، الَّذِي يَلْزَمُهُ حُكْمُ هَذِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اللِّصُّ الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} " الْآيَةُ، قَالَا: هَذَا اللِّصُّ الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، فَهُوَ مُحَارِبٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اللِّصُّ الْمُجَاهِرُ بِلُصُوصِيَّتِهِ، الْمُكَابِرُ فِي الْمِصْرِ وَغَيْرِهِ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ الْأَوْزَاعِيُّ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ الْعَبَّاسُ، عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ. وَعَنْهُ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَابْنِ لَهِيعَةَ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: تَكُونُ مُحَارَبَةٌ فِي الْمِصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالْمُحَارِبُ عِنْدَنَا مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مِصْرٍ أَوْ خَلَاءٍ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى غَيْرِ نَائِرَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَلَا ذَحْلٍ وَلَا عَدَاوَةٍ، قَاطِعًا لِلسَّبِيلِ وَالطَّرِيقِ وَالدِّيَارِ، مُخِيفًا لَهُمْ بِسِلَاحِهِ، فَقَتَلَ أَحَدًا مِنْهُمْ، قَتَلَهُ الْإِمَامُ كَقِتْلَةِ الْمُحَارِبِ، لَيْسَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِيهِ عَفْوٌ وَلَا قَوَدٌ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: وَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ وَابْنَ لَهِيعَةَ، قُلْتُ تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ فِي دُورِ الْمِصْرِ وَالْمَدَائِنِ وَالْقُرَى؟ فَقَالَا: نَعَمْ، إِذَا هُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ بِالسُّيُوفِ عَلَانِيَةً، أَوْ لَيْلًا بِالنِّيرَانِ. قُلْتُ: فَقَتَلُوا أَوْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا؟ فَقَالَ: نَعَمْ هُمُ الْمُحَارِبُونَ، فَإِنْ قَتَلُوا قُتِلُوا، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، قُطِعُوا مِنْ خِلَافٍ إِذَا هُمْ خَرَجُوا بِهِ مِنَ الدَّارِ، لَيْسَ مَنْ حَارَبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْخَلَاءِ وَالسَّبِيلِ، بِأَعْظَمِ مُحَارَبَةً مِمَّنْ حَارَبَهُمْ فِي حَرِيمِهِمْ وَدُورِهِمْ! حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَتَكُونُ الْمُحَارَبَةُ فِي الْمِصْرِ، شَهَرَ عَلَى أَهْلِهِ بِسِلَاحِهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا قَالَ عَلِيٌّ، قَالَ الْوَلِيدُ: وَأَخْبَرَنِي مَالِكٌ: أَنَّقَتْلَ الْغِيلَةِعِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَارَبَةِ. قُلْتُ: وَمَا قَتْلُ الْغِيلَةِ؟ قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَخْدَعُ الرَّجُلَ وَالصَّبِيَّ، فَيُدْخِلُهُ بَيْتًا أَوْ يَخْلُو بِهِ، فَيَقْتُلُهُ، وَيَأْخُذُ مَالَهُ. فَالْإِمَامُ وَلِيُّ قَتْلِ هَذَا، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الدَّمِ وَالْجُرْحِ قَوَدٌ وَلَا قِصَاصٌ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ عَنْهُ الرَّبِيعُ. وَقَالَ آخَرُونَ: "الْمُحَارِبُتَعْرِيفُهُ "، هُوَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ. فَأَمَّا "المُكَابِرُ فِي الْأَمْصَارِ"، فَلَيْسَ بِالْمُحَارِبِ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْمُحَارِبِينَ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا الْمُحَارِبَ وَنَحْنُ عِنْدَ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فِي أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ: أَنَّ الْمُحَارِبَ مَا كَانَ خَارِجًا مِنَ الْمِصْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ بِمَا:- حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} " قَالَ: الزِّنَا، وَالسَّرِقَةُ، وَقَتْلُ النَّاسِ، وَإِهْلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} " قَالَ: "الْفَسَادُ"، الْقَتْلُ، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةُ. وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: "الْمُحَارِبُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ"، مَنْ حَارَبَ فِي سَابِلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَذِمَّتِهِمْ، وَالْمُغِيرُ عَلَيْهِمْ فِي أَمْصَارِهِمْ وَقُرَاهُمْ حِرَابَةً. وَإِنَّمَا قُلْنَا: ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْحُجَّةِ أَنَّ مَنْ نَصَبَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الظُّلْمِ مِنْهُ لَهُمْ، أَنَّهُ لَهُمْ مُحَارِبٌ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. فَالَّذِي وَصَفْنَا صِفَتَهُ، لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ لَهُمْ نَاصِبٌ حَرْبًا ظُلْمًا. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَسَوَاءٌ كَانَ نَصْبُهُ الْحَرْبَ لَهُمْ فِي مِصْرِهِمْ وَقُرَاهُمْ، أَوْ فِي سُبُلِهِمْ وَطُرُقِهِمْ: فِي أَنَّهُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مُحَارِبٌ، بِحَرْبِهِ مَنْ نَهَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْ حَرْبِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} "، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَيَعْمَلُونَ فِي أَرْضِ اللَّهِ بِالْمَعَاصِي: مِنْ إِخَافَةِ سُبُلِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، أَوْ سُبُلِ ذِمَّتِهِمْ، وَقَطْعِ طُرُقِهِمْ، وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وَالتَّوَثُّبِ عَلَى حَرَمِهِمْ فُجُورًا وَفُسُوقًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا لِلَّذِي حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، مِنْ أَهْلِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ أَوْ ذِمَّتِهِمْ- إِلَّا بَعْضُ هَذِهِ الْخِلَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْخِلَالِ، أَتُلْزِمُ الْمُحَارِبَ بِاسْتِحْقَاقِهِ اسْمَ "المُحَارَبَةِ"، أَمْ يَلْزَمُهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ جُرْمِهِ، مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ أَجْرَامِهِ؟ [ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَجِبُ عَلَى الْمُحَارِبِ الْعُقُوبَةُ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَيَلْزَمُهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ جُرْمِهِ، مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ أَجْرَامِهِ].
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" إِلَى قَوْلِهِ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} "، قَالَ: إِذَا حَارَبَ فَقَتَلَ، فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ. وَإِذَا حَارَبَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ، فَعَلَيْهِ الصَّلْبُ إِنْ ظُهِرَ عَلَيْهِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ. وَإِذَا حَارَبَ وَأَخَذَ وَلَمْ يَقْتُلْ، فَعَلَيْهِ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ إِنْ ظُهِرَ عَلَيْهِ قَبْلَ تَوْبَتِهِ. وَإِذَا حَارَبَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ النَّفْيُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ وَأَبُو السَّائِبِ قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} " قَالَ: إِذَا خَرَجَ فَأَخَافَ السَّبِيلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ. وَإِذَا أَخَافَ السَّبِيلَ، وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ وَقَتَلَ، صُلِبَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ-فِيمَا أَرَى- فِي الرَّجُلِ يَخْرُجُ مُحَارِبًا، قَالَ: إِنْ قَطْعَ الطَّرِيقِ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ. وَإِنْ أَخْذَ الْمَالَ وَقَتَلَ، قُتِلَ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ وَمَثَّلَ، صُلِبَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} " الْآيَةُ، قَالَ: إِذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ، صُلِبَ. وَإِذَا قَتَلَ لَمْ يَعْدُ ذَلِكَ، قُتِلَ. وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ لَمْ يَعْدُ ذَلِكَ، قُطِعَ. وَإِذَا كَانَ يُفْسِدُ نُفِيَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنِ الْحَسَنِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "إِلَى قَوْلِهِ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}" قَالَ: إِذَا أَخَافَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ، نُفِيَ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: مَنْ حَارَبَ فَأَخَافَ السَّبِيلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ. وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ، صُلِبَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} " إِلَى قَوْلِهِ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} "، حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ أَنْزَلَهَا اللَّهُ. فَأَمَّا مَنْ أَصَابَ الدَّمَ وَالْمَالَ جَمِيعًا، صُلِبَ. وَأَمَّا مَنْ أَصَابَ الدَّمَ وَكَفَّ عَنِ الْمَالِ، قُتِلَ. وَمَنْ أَصَابَ الْمَالَ وَكَفَّ عَنِ الدَّمِ، قُطِعَ. وَمَنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا مِنْ هَذَا، نُفِيَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَنْ يُسْمِلَ أَعْيُنَ الْعُرَنِيِّينَ الَّذِينَ أَغَارُوا عَلَى لِقَاحِهِ، وَأَمْرَهُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِمُ الْحُدُودَ كَمَا أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ. فَنَظَرَ إِلَى مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، فَقَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ، يَدَهُ الْيُمْنَى وَرِجْلَهُ الْيُسْرَى. وَنَظَرَ إِلَى مَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا فَقَتَلَهُ. وَنَظَرَ إِلَى مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ، فَصَلَبَهُ. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ أَخَافَ طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ وَقَطَعَ، أَنْ يُصْنَعَ بِهِ إِنْ أُخِذَ وَقَدْ أَخَذَ مَالًا قُطِعَتْ يَدُهُ بِأَخْذِهِ الْمَالَ، وَرِجْلُهُ بِإِخَافَةِ الطَّرِيقِ. وَإِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا قُتِلَ، وَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، صُلِبَ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ: سَمِعْتُ السُّدِّيَّ يَسْأَلُ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيَّ، عَنْ رَجُلٍ مُحَارِبٍ، خَرَجَ فَأَخَذَ وَلَمْ يُصِبْ مَالًا وَلَمْ يُهْرِقْ دَمًا. قَالَ: النَّفْيُ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ أُخِذَ مَالًا فَيَدُهُ بِالْمَالِ، وَرِجْلُهُ بِمَا أَخَافَ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ هُوَ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا قُتِلَ. وَإِنْ هُوَ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، صُلِبَ وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ قَالَ: تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} " الْآيَةُ، قَالَ: هَذَا، اللِّصُّ الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، فَهُوَ مُحَارِبٌ. فَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ مَالًا صُلِبَ. وَإِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا قُتِلَ. وَإِنْ أَخَذَ مَالًا وَلَمْ يَقْتُلْ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ. وَإِنْ أُخِذَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا، مِنْ ذَلِكَ، نُفِيَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَنْ خَرَجَ فِي الْإِسْلَامِ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَتَلَ وَأَصَابَ مَالًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ. وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يُصِبْ مَالًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ كَمَا قَتَلَ. وَمَنْ أَصَابَ مَالًا وَلَمْ يَقْتُلْ، فَإِنَّهُ يُقْطَعُ مِنْ خِلَافٍ. وَإِنْ أَخَافَ سَبِيلَ الْمُسْلِمِينَ، نُفِيَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى غَيْرِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "، قَالَ: كَانَ نَاسٌ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَقَتَلُوا وَقَطَعُوا السَّبِيلَ، فَصُلِبَ أُولَئِكَ. وَكَانَ آخَرُونَ حَارَبُوا وَاسْتَحَلُّوا الْمَالَ وَلَمْ يَعْدُوا ذَلِكَ، فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ. وَآخَرُونَ حَارَبُوا وَاعْتَزَلُوا وَلَمْ يَعْدُوا ذَلِكَ، فَأُولَئِكَ أُخْرِجُوا مِنَ الْأَرْضِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي هِلَالٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ فِي الْمُحَارِبِ قَالَ: إِنْ كَانَ خَرَجَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، صُلِبَ. وَإِنْ كَانَ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ، قُتِلَ. وَإِنْ كَانَ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، قُطِعَ. وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مُشَاقًّا لِلْمُسْلِمِينَ: نُفِيَ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا خَرَجَ الْمُحَارِبُ وَأَخَافَ الطَّرِيقَ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ. فَإِنْ هُوَ خَرَجَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ صُلِبَ. وَإِنْ خَرَجَ فَقَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ، قُتِلَ. وَإِنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ، نُفِيَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْبَرْقِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَعَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} " قَالَا إِنْ أَخَافَ الْمُسْلِمِينَ فَقَطَعَ الْمَالَ وَلَمْ يَسْفِكْ، قُطِعَ. وَإِذَا سَفَكَ دَمًا: قُتِلَ وَصُلِبَ. وَإِنْ جَمْعَهُمَا فَاقْتَطَعَ مَالًا وَسَفَكَ دَمًا، قُطِعَ ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ صُلِبَ، كَأَنَّ الصَّلْبَ مُثْلَةٌ، وَكَأَنَّ الْقَطْعَ: " {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "، وَكَأَنَّ الْقَتْلَ: " {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ". وَإِنِ امْتَنَعَ، فَإِنَّ مِنَ الْحَقِّ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَطْلُبُوهُ حَتَّى يَأْخُذُوهُ، فَيُقِيمُوا عَلَيْهِ حُكْمَ كِتَابِ اللَّهِ: "أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ"، مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَرْضِ الْكُفْرِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاعْتَلَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ لِقَوْلِهِمْ هَذَا، بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدَ، وَعَلَى السَّارِقِ الْقَطْعَ. وَقَالُوا: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِلَالٍ: رَجُلٌ قَتَلَ فَقُتِلَ، وَرَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ فَرُجِمَ، وَرَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِه» ". قَالُوا: فَحَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى هَذِهِ الْخِلَالِ الثَّلَاثِ. فَأَمَّا أَنْ يُقْتَلَ مِنْ أَجْلِ إِخَافَتِهِ السَّبِيلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يَأْخُذَ مَالًا فَذَلِكَ تَقَدُّمٌ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْخِلَافِ عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ. قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: "الْإِمَامُ فِيهِ بِالْخِيَارِ، إِذَا قَتَلَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ وَأَخَذَ الْمَالَ"، فَهُنَالِكَ خِيَارُ الْإِمَامِ فِي قَوْلِهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ، أَوِ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ، أَوْ قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ. وَأَمَّا صَلْبُهُ بِاسْمِ الْمُحَارَبَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ قَتْلٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ، فَذَلِكَ مَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْإِمَامُ فِيهِ بِالْخِيَارِ: أَنْ يَفْعَلَ أَيَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنْ عَطَاءٍ وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْمُحَارِبِ: أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهِ، أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ فَعَلَ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي الْمُحَارِبِ، أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ فَعَلَ. إِنْ شَاءَ قَتَلَ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ، وَإِنْ شَاءَ نَفَى، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "، إِلَى قَوْلِهِ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} "، قَالَ: يَأْخُذُ الْإِمَامُ بِأَيِّهَا أَحَبَّ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} " قَالَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: يَصْنَعُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ مَا شَاءَ. إِنْ شَاءَ قَتَلَ، أَوْ قَطَعَ، أَوْ نَفَى، لِقَوْلِ اللَّهِ: " {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} "، فَذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ الْحَاكِمِ، يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" الْآيَةُ، قَالَ: مَنْ شَهَرَ السِّلَاحَ فِي قُبَّةِ الْإِسْلَامِ، وَأَخَافَ السَّبِيلَ، ثُمَّ ظُفِرَ بِهِ وَقُدِرَ عَلَيْهِ، فَإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو هِلَالٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحَارِبِ: ذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ، إِذَا أَخَذَهُ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي هِلَالٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ، عَنِ الْحَسَنِ فِي الْمُحَارِبِ قَالَ: ذَاكَ إِلَى الْإِمَامِ، يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "، قَالَ: ذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاعْتَلَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنْ قَالُوا: وَجَدْنَا الْعُطُوفَ الَّتِي بِـ"أَوْ" فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ، فِي كُلِّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ بِهِ فَرْضًا مِنْهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 89]، وَكَقَوْلِهِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 196]، وَكَقَوْلِهِ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلٌ ذَلِكَ صِيَامًا} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 95]. قَالُوا: فَإِذَا كَانَتِ الْعُطُوفُ الَّتِي بِـ"أَوْ" فِي الْقُرْآنِ، فِي كُلِّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ بِهِ فَرْضًا مِنْهَا فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ، بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْمُحَارِبِينَ، الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِيمَا رَأَى الْحُكْمَ بِهِ عَلَى الْمُحَارِبِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، تَأْوِيلُ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى الْمُحَارِبِ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى قَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَجَعْلِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُحَارِبِينَ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ أَفْعَالِهِمْ. فَأُوجِبُ عَلَى مُخِيفِ السَّبِيلِ مِنْهُمْ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَقَبْلَ أَخْذِ مَالٍ أَوْ قَتْلٍ النَّفْيَ مِنَ الْأَرْضِ. وَإِذَاقُدِرَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَخْذِ الْمَالِ وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمِ قَتْلُهَاالْمُحَارِبُ الصَّلْبَ، لِمَا ذَكَرْتُ مِنَ الْعِلَّةِ قَبْلُ لِقَائِلِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ. فَأَمَّا مَا اعْتَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ: إِنَّ الْإِمَامَ فِيهِ بِالْخِيَارِ، مِنْ أَنَّ "أَوْ" فِي الْعَطْفِ تَأْتِي بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ فِي الْفَرْضِ، فَقَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ "أَوْ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَدْ تَأْتِي بِضُرُوبٍ مِنَ الْمَعَانِي، لَوْلَا كَرَاهَةُ إِطَالَةِ الْكِتَابِ بِذِكْرِهَا لَذَكَرْتُهَا، وَقَدْ بَيَّنْتُ كَثِيرًا مِنْ مَعَانِيهَا فِيمَا مَضَى، وَسَنَأْتِي عَلَى بَاقِيهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فِي أَمَاكِنِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَأَمَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا التَّعْقِيبُ، وَذَلِكَ نَظِيرَ قَوْلِ الْقَائِلِ: "إِنَّ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْفَعَ مَنَازِلَهُمْ فِي عِلِّيِّينَ، أَوْ يُسْكِنَهُمْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ"، فَمَعْلُومٌ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ غَيْرَ قَاصِدٍ بِقِيلِهِ إِلَى أَنَّ جَزَاءَ كُلِّ مُؤْمِنٍ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهُوَ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ، وَمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ بِإِيمَانِهِ، بَلِ الْمَعْقُولُ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِ لَنْ يَخْلُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الْمَنَازِلِ. فَالْمُقْتَصِدُ مَنْزِلَتُهُ دُونَ مَنْزِلَةِ السَّابِقِ بِالْخَيْرَاتِ، وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ أَعْلَى مِنْهُ مَنْزِلَةً، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ دُونَهُمَا، وَكُلٌّ فِي الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [سُورَةُ فَاطِرٍ: 33]. فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْعُطُوفِ بِـ"أَوْ" فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "، الْآيَةُ، إِنَّمَا هُوَ التَّعْقِيبُ. فَتَأْوِيلُهُ: إِنَّ الَّذِي يُحَارِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، لَنْ يَخْلُوَ مِنْ أَنَّ يَسْتَحِقَّ الْجَزَاءَ بِإِحْدَى هَذِهِ الْخِلَالِ الْأَرْبَعِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ لَا أَنَّ الْإِمَامَ مُحَكَّمٌ فِيهِ وَمُخَيَّرٌ فِي أَمْرِهِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ حَالَتُهُ، عَظُمَتْ جَرِيرَتُهُ أَوْ خَفَّتْ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَكَانَ لِلْإِمَامِ قَتْلَ مَنْ شَهَرَ السِّلَاحِ مُخِيفًا السَّبِيلَ وَصَلْبَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَلَا قَتَلَ أَحَدًا، وَكَانَ لَهُ نَفْيُ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ. وَذَلِكَ قَوْلٌ إِنْ قَالَهُ قَائِلٌ، خِلَافُ مَا صَحَّتْ بِهِ الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: "«لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا فَقُتِلَ بِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ فَرُجِمَ، أَوِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِه»" وَخِلَافُ قَوْلِهِ: " «الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» "، وَغَيْرُ الْمَعْرُوفِ مِنْ أَحْكَامِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذَكَرْتَ، كَانَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ الْمُحَارِبِ، وَلِلْمُحَارِبِ حُكْمٌ غَيْرُ ذَلِكَ مُنْفَرِدٌ بِهِ. قِيلَ لَهُ: فَمَا الْحُكْمُ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ الْمُحَارِبُ فِي سَنَنِهِ؟ فَإِنِ ادَّعَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمًا خِلَافَ الَّذِي ذَكَرْنَا، أَكْذَبَهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرَ مَوْجُودٍ بِنَقْلِ وَاحِدٍ وَلَا جَمَاعَةٍ. وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ هُوَ مَا فِي ظَاهِرِ الْكِتَابِ، قِيلَ لَهُ: فَإِنَّ أَحْسَنَ حَالَاتِكَ إِنْ سُلِّمَ لَكَ، أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ قَدْ يَحْتَمِلُ مَا قُلْتَ وَمَا قَالَهُ مَنْ خَالَفَكَ فَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مِنْ تَأْوِيلِهِ؟ وَبَعْدُ، فَإِذْ كَانَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُحَارِبِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ "أَوْ" بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِنْدَكَ، أَفَلَهُ أَنْ يَصْلُبَهُ حَيًّا، وَيَتْرُكَهُ عَلَى الْخَشَبَةِ مَصْلُوبًا حَتَّى يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ قَتْلِهِ؟. فَإِنْ قَالَ: "ذَلِكَ لَهُ"، خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأُمَّةَ. وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، وَإِنَّمَا لَهُ قَتْلُهُ ثُمَّ صَلْبُهُ، أَوْ صَلْبُهُ ثُمَّ قَتْلُهُ تَرَكَ عِلَّتَهُ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُحَارِبِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ "أَوْ" تَأْتِي بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ. وَقِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْقَتْلِ أَوِ النَّفْيِ أَوِ الْقَطْعِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الصَّلْبِ وَحْدَهُ، حَتَّى تَجْمَعَ إِلَيْهِ عُقُوبَةً أُخْرَى؟ وَقِيلَ لَهُ: هَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ جَعَلَ الْخِيَارَ حَيْثُ أَبَيْتَ، وَأَبَى ذَلِكَ حَيْثُ جَعَلْتَهُ لَهُ فَرْقٌ مِنْ أَصْلٍ أَوْ قِيَاسٍ؟ فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ الْآخَرَ مِثْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَصْحِيحِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، بِمَا فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ مَا"- حَدَّثَنَا بِهِ عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَسٌ يُخْبِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ الْعُرَنِيِّينَ، وَهُمْ مِنْ بَجِيلَةَ. قَالَ أَنَسٌ: فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَسَاقُوا الْإِبِلَ، وَأَخَافُوا السَّبِيلَ، وَأَصَابُوا الْفَرْجَ الْحَرَامَ. قَالَ أَنَسٌ: «فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْقَضَاءِ فِيمَنْ حَارَبَ، فَقَالَ: مَنْ سَرَقَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ فَاقْطَعْ يَدَهُ بِسَرِقَتِهِ، وَرِجْلَهُ بِإِخَافَتِهِ. وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ. وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ وَاسْتَحَلَّ الْفَرْجَ الْحَرَامَ، فَاصْلُبْه». وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} "، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَنَّهُ تُقَطَّعُ أَيْدِيهِمْ مُخَالِفًا فِي قَطْعِهَا قَطْعَ أَرْجُلِهِمْ. وَذَلِكَ أَنْ تُقْطَعَ أَيْمُنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَشْمُلَ أَرْجُلِهِمْ. فَذَلِكَ "الْخِلَافُ" بَيْنَهُمَا فِي الْقَطْعِ. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ "مِنْ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ"عَلَى" أَوِ "البَاءِ"، فَقِيلَ: "أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ عَلَى خِلَافٍ أَوْ: بِخِلَافٍ"، لَأَدَّيَا عَمَّا أَدَّتْ عَنْهُ "مِنْ" مِنَ الْمَعْنَى. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى "النَّفْيِ" الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يُطْلَبَ حَتَّى يُقْدَرَ عَلَيْهِ، أَوْ يَهْرُبَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} "، قَالَ: يَطْلُبُهُمُ الْإِمَامُ بِالْخَيْلِ وَالرِّجَالِ حَتَّى يَأْخُذَهُمْ فَيُقِيمَ فِيهِمُ الْحُكْمَ، أَوْ يُنْفَوْا مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَفْيُهُ: أَنْ يُطْلَبَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} "، يَقُولُ: أَوْ يَهْرُبُوا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ كِتَابِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ: "وَنَفْيُهُ، أَنْ يَطْلُبَهُ الْإِمَامُ حَتَّى يَأْخُذَهُ، فَإِذَا أَخَذَهُ أَقَامَ عَلَيْهِ إِحْدَى هَذِهِ الْمَنَازِلِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِمَا اسْتَحَلَّ". حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلَيْثِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ: نَفْيُهُ، طَلَبُهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى يُؤْخَذَ، أَوْ يُخْرِجُهُ طَلَبُهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الشِّرْكِ وَالْحَرْبِ، إِذَا كَانَ مُحَارِبًا مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ قَالَ الْوَلِيدُ: وَسَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، فَقَالَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ: وَكَذَلِكَ يُطْلَبُ الْمُحَارِبُ الْمُقِيمُ عَلَى إِسْلَامِهِ، يَضْطَرُّهُ بِطَلَبِهِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَقْصَى حَوْزِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ طَلَبُوهُ دَخْلَ دَارَ الشِّرْكِ؟ قَالَا لَا يُضْطَرُّ مُسْلِمٌ إِلَى ذَلِكَ. حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} " قَالَ: أَنْ يَطْلُبُوهُ حَتَّى يَعْجَزُوا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} "، قَالَ: يُنْفَى حَتَّى لَا يُقْدَرَ عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} "، قَالَ: أُخْرِجُوا مِنَ الْأَرْضِ. أَيْنَمَا أُدْرِكُوا أُخْرِجُوا حَتَّى يُلْحَقُوا بِأَرْضِ الْعَدُّوِّ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} "، قَالَ: نَفْيُهُ: أَنْ يُطْلَبَ فَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ، كُلَّمَا سُمِعَ بِهِ فِي أَرْضٍ طُلِبَ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} "، قَالَ: إِذَا لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا طُلِبَ حَتَّى يُعْجِزَ. حَدَّثَنِي ابْنُ الْبَرْقِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَعَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: "أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ"، مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَرْضِ الْكُفْرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى "النَّفْيِ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ نَفَاهُ مِنْ بَلْدَتِهِ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} "، قَالَ: مَنْ أَخَافَ سَبِيلَ الْمُسْلِمِينَ، نُفِيَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى غَيْرِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ حَيَّانَ بْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي اللُّصُوصِ، وَوَصَفَ لَهُ لُصُوصِيَّتَهُمْ، وَحَبْسَهُمْ فِي السُّجُونِ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} "، وَتَرَكَ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} ". فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَذْكُرُ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} "، وَتَرَكْتَ قَوْلَ اللَّهِ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} "، فَنَبِيٌّ أَنْتَ، يَا حَيَّانُ؟ !! لَا تُحَرِّكِ الْأَشْيَاءَ عَنْ مَوَاضِعِهَا، أَتَجَرَّدْتَ لِلْقَتْلِ وَالصَّلْبِ كَأَنَّكَ عَبْدُ بَنِي عَقِيلٍ، مِنْ غَيْرِ مَا أُشَبِّهُكَ بِهِ؟ إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا، فَانْفِهِمْ إِلَى شَغْبٍ". حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ وَغَيْرِهِ، بِنَحْوِ هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرَ أَنَّ يُونُسَ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: "كَأَنَّكَ عَبْدُ بَنِي أَبِي عِقَالٍ، مِنْ غَيْرِ أَنَّ أُشَبِّهَكَ بِهِ". حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ الصَّلْتَ، كَاتِبَ حَيَّانِ بْنِ سُرَيْجٍ، أَخْبَرَهُمْ: أَنَّ حَيَّانَ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "أَنَّ نَاسًا مِنَ الْقِبْطِ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُمْ حَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَوْا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} " فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ، " {وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} "، وَسَكَتَ عَنِ النَّفْيِ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ: "فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُمْضِيَ قَضَاءَ اللَّهِ فِيهِمْ، فَلْيَكْتُبْ بِذَلِكَ". فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كِتَابَهُ قَالَ: لَقَدِ اجْتَزَأَ حَيَّانُثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: "إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ وَفَهِمْتُهُ، وَلَقَدِ اجْتَزَأْتَ، كَأَنَّمَا كَتَبْتَ بِكِتَابِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ، أَوْ عِلْجِ صَاحِبِ الْعِرَاقِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ أُشَبِّهَكَ بِهِمَا، فَكَتَبْتَ بِأَوَّلِ الْآيَةِ، ثُمَّ سَكَّتَّ عَنْ آخِرِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: " {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} "، فَإِنْ كَانَتْ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْبَيِّنَةُ بِمَا كَتَبْتَ بِهِ، فَاعْقِدْ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَدِيدًا، ثُمَّ غَيِّبْهُمْ إِلَى شَغْبٍ وَبَدَا." قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: "شَغْبٌ وَ"بَدَا"، مَوْضِعَانِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى "النَّفْيِ مِنَ الْأَرْضِ"، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْحَبْسُ. ذِكْرُ مَنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى "النَّفْيِ مِنَ الْأَرْضِبِالنِّسْبَةِ لِلْمُحَارِبِينَ "، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، هُوَ نَفْيُهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ غَيْرِهِ، وَحَبْسُهُ فِي السِّجْنِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي نُفِيَ إِلَيْهِ، حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ مِنْ فُسُوقِهِ، وَنُزوعَهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ رَبَّهُ. وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ، لِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْتُ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا جَعَلَ جَزَاءَ الْمُحَارِبِ: الْقَتْلَ أَوِ الصَّلْبَ أَوْ قَطْعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لَا فِي حَالِ امْتِنَاعِهِ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ النَّفْيَ أَيْضًا إِنَّمَا هُوَ جَزَاؤُهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لَا قَبْلَهَا. وَلَوْ كَانَ هَرَبُهُ مِنَ الطَّلَبِ نَفْيًا لَهُ مِنَ الْأَرْضِ، كَانَ قَطْعُ يَدِهِ وَرِجْلِهِ مِنْ خِلَافٍ فِي حَالِ امْتِنَاعِهِ وَحَرْبِهِ عَلَى وَجْهِ الْقِتَالِ، بِمَعْنَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقُومُ مُقَامَ نَفْيِهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَدًّا لَهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، [بَطَلَ أَنْ يَكُونَ نَفْيُهُ مِنَ الْأَرْضِ، هَرَبَهُ مِنَ الطَّلَبِ]. وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ، وَهُوَ النَّفْيُ مِنْ بَلْدَةٍ إِلَى أُخْرَى غَيْرِهَا، أَوِ السَّجْنِ. فَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ إِذَا نُفِيَ مِنْ بَلْدَةٍ إِلَى أُخْرَى غَيْرِهَا، فَلَمْ يُنْفَ مِنَ الْأَرْضِ، بَلْ إِنَّمَا نَفْيٌ مِنْ أَرْضٍ دُونَ أَرْض. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِنَفْيهِ مِنَ الْأَرْضِ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى نَفْيِهِ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا بِحَبْسِهِ فِي بُقْعَةٍ مِنْهَا عَنْ سَائِرِهَا، فَيَكُونُ مَنْفِيًّا حِينَئِذٍ عَنْ جَمِيعِهَا، إِلَّا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى نَفْيِهِ مِنْهُ. وَأَمَّا مَعْنَى "النَّفْيِ"، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَهُوَ الطَّرْدُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ: يُنْفَوْنَ عَنْ طُرُقِ الْكِرَامِ كَمَا *** تَنْفِي الْمَطَارِقُ مَا يَلِي الْقَرَدُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: "النُّفَايَةُ". وَأَمَّا الْمَصْدَرُ مِنْ "نَفَيْتُ"، فَإِنَّهُ "النَّفْيُ" "وَالنِّفَايَةُ"، وَيُقَالُ: "الدَّلْوُ يَنْفِي الْمَاءَ"، وَيُقَالُ لِمَا تَطَايَرَ مِنَ الْمَاءِ مِنَ الدَّلْوِ: "النَّفِيُّ"، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: كأَنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ *** مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ وَمِنْهُ قِيلَ: "نَفَى شَعَرُهُ"، إِذَا سَقَطَ، يُقَالُ: "حَالَ لَوْنُكَ، ونَفَى شَعَرُكَ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: "ذَلِكَ"، هَذَا الْجَزَاءَ الَّذِي جَازَيْتُ بِهِ الَّذِينَ حَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَسَعَوْا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ قَتْلٍ أَوْ صَلْبٍ أَوْ قَطْعِ يَدٍ وَرِجْلٍ مِنْ خِلَافٍ "لَهُمْ"، يَعْنِي: لِهَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ "خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا"، يَقُولُ: هُوَ لَهُمْ شَرٌّ وَعَارٌ وَذِلَّةٌ، وَنَكَالٌ وَعُقُوبَةٌ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. يُقَالُ مِنْهُ: "أَخْزَيْتُ فُلَانًا، فَخَزِيَ هُوَ خِزْيًا". وَقَوْلُهُ: "وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"، يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَوْا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، فَلَمْ يَتُوبُوا مِنْ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى هَلَكُوا فِي الْآخِرَةِ، مَعَ الْخِزْيِ الَّذِي جَازَيْتُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعُقُوبَةِ الَّتِي عَاقَبَتْهُمْ بِهَا فِيهَا"عَذَابٌ عَظِيمٌ"، يَعْنِي: عَذَابَ جَهَنَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ شِرْكِهِمْ وَمُنَاصَبَتِهِمُ الْحَرْبَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، بِالْإِسْلَامِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ، مِنْ قَبْلِ قُدْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ جَزَاءً لِمَنْ حَارَبَهُ وَرَسُولَهُ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، مِنْ قَتْلٍ، أَوْ صَلْبٍ، أَوْ قَطْعِ يَدٍ وَرِجْلٍ مِنْ خِلَافٍ، أَوْ نَفْيٍ مِنَ الْأَرْضِ فَلَا تِبَاعَةَ قِبَلَهُ لِأَحَدٍ فِيمَا كَانَ أَصَابَ فِي حَالِ كُفْرِهِ وَحَرْبِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فِي مَالٍ وَلَا دَمٍ وَلَا حُرْمَةٍ. قَالُوا: فَأَمَّا الْمُسْلِمُ إِذَا حَارَبَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْمُعَاهَدِينَ، وَأَتَى بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ، فَلَنْ تَضَعَ تَوْبَتُهُ عَنْهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ، بَلْ تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَعَلَى الْإِمَامِ إِقَامَةُ الْحَدِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَخْذُهُ بِحُقُوقِ النَّاسِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقَدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَا قَوْلَهُ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ} " إِلَى قَوْلِهِ: " {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "، نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ، فَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ. وَلَيْسَ تُحْرِزُ هَذِهِ الْآيَةُ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْحَدِّ إِنْ قَتَلَ، أَوْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، أَوْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ. ذَلِكَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَ. حَدَّثَنَا بَشَّارٌ قَالَ: حَدَّثَنَا رُوحُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "، قَالَ: هَذَا لِأَهْلِ الشِّرْكِ، إِذَا فَعَلُوا شَيْئًا فِي شِرْكِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، إِذَا تَابُوا وَأَسْلَمُوا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} " الزِّنَا، وَالسَّرِقَةُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَإِهْلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ" {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} "، عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَ قَوْمٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيثَاقٌ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَقَطَعُوا السَّبِيلَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، فَخَيَّرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ: فَإِنْ شَاءَ قَتَلَ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ. فَمَنْ تَابَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِ، قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: " {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "، الْآيَةُ فَذَكَرَ نَحْوَ قَوْلِ الضَّحَّاكِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ جَاءَ تَائِبًا فَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، قُبِلَ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا سَلَفَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} "، قَالَ: هَذَا لِأَهْلِ الشِّرْكِ، إِذَا فَعَلُوا شَيْئًا مِنْ هَذَا فِي شِرْكِهِمْ، ثُمَّ تَابُوا وَأَسْلَمُوا، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وقَتَادَةَ: أَمَّا قَوْلُهُ: " {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} "، فَهَذِهِ لِأَهْلِ الشِّرْكِ. فَمَنْ أَصَابَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَيْئًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ لَهُمْ حَرْبٌ، فَأَخَذَ مَالَا وَأَصَابَ دَمًا، ثُمَّ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِ، أُهْدِرُ عَنْهُ مَا مَضَى. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْنِيٌّ بِالْحُكْمِ بِهَا، الْمُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: الْحُرَّابُ مَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، مَنْ قَطَعَ مِنْهُمُ الطَّرِيقَ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى إِسْلَامِهِ، ثُمَّ اسْتَأْمَنَ فَأُومِنَ عَلَى جِنَايَاتِهِ الَّتِي جَنَاهَا، وَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ حَرْبٌ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ اسْتَأْمَنَ فَأُومِنَ. قَالُوا: فَإِذَا أَمَّنَهُ الْإِمَامُ عَلَى جِنَايَاتِهِ الَّتِي سَلَفَتْ، لَمْ يَكُنْ قِبَلَهُ لِأَحَدٍ تَبِعَةٌ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ أَصَابَهُ قَبْلَ تَوْبَتِهِ، وَقَبْلَ أَمَانِ الْإِمَامِ إِيَّاهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ بَدْرٍ خَرَجَ مُحَارِبًا، فَأَخَافَ السَّبِيلَ، وَسَفَكَ الدَّمَ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، فَقَبِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْبَتَهُ، وَجُعِلَ لَهُ أَمَانًا مَنْشُورًا عَلَى مَا كَانَ أَصَابَ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ بَدْرٍ حَارَبَ فِي عَهْدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَتَى الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْمِنَ لَهُ مِنْ عَلِيٍّ، فَأَبَى. ثُمَّ أَتَى ابْنَ جَعْفَرٍ، فَأَبَى عَلَيْهِ. فَأَتَى سَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيَّ فَأَمَّنَهُ، وَضَمَّهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ لَهُ: اسْتَأْمِنْ لِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى عَلِيٌّ الْغَدَاةَ، أَتَاهُ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: أَنْ يُقَتَّلُوا، أَوْ يُصْلَبُوا، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: " {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} ". قَالَ سَعِيدٌ: وَإِنْ كَانَ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ! قَالَ: فَهَذَا حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ قَدْ جَاءَ تَائِبًا، فَهُوَ آمِنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَجَاءَ بِهِ فَبَايَعَهُ، وَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَغْرَاءَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ قَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ وَحَارَبَ، ثُمَّ تَابَ. وَكُلِّمَ لَهُ عَلِيٌّ فَلَمْ يُؤَمِّنْهُ. فَأَتَى سَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ فَكَلَّمَهُ، فَانْطَلَقَ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَقُولُ فِيمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَقَرَأَ الْآيَةَ كُلَّهَا فَقَالَ: أَرَأَيْتَ مَنْ تَابَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ. قَالَ: فَإِنَّهُ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ! قَالَ: فَأَمَّنَهُ عَلِيٌّ، فَقَالَ حَارِثَةُ: أَلَا أَبْلِغَا هَمْدَانَ إِمَّا لَقِيتُهَا *** عَلَى النَّأيِ لَا يَسْلَمْ عَدُوٌّ يَعِيبُهَا لَعَمْرُ أَبِيهَا إِنَّ هَمْدَانَ تَتَّقِي *** الْإِلَهَ وَيَقْضِي بِالْكِتَابِ خَطِيبُهَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: " {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} "، وَتَوْبَتُهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ: أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْإِمَامِ يَسْتَأْمِنُهُ عَلَى مَا قَتَلَ وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ: "فَإِنْ لَمْ يُؤَمِّنِّي عَلَى ذَلِكَ، ازْدَدْتُ فَسَادًا وَقَتْلًا وَأَخْذًا لِلْأَمْوَالِ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلْتُ ذَلِكَ قَبْلُ". فَعَلَى الْإِمَامِ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يُؤَمِّنَهُ عَلَى ذَلِكَ. فَإِذَا أَمَّنَهُ الْإِمَامُ جَاءَ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِ الْإِمَامِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَتَّبِعَهُ، وَلَا يَأْخُذَهُ بِدَمٍ سَفَكَهُ، وَلَا مَالٍ أَخَذَهُ. وَكُلُّ مَالٍ كَانَ لَهُ فَهُوَ لَهُ، لِكَيْلَا يَقْتُلَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا وَيُفْسِدَ. فَإِذَا رَجَعَ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَهُوَ وَلِيُّهُ، يَأْخُذُهُ بِمَا صَنَعَ، وَتَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ. فَإِذَا أَخَذَهُ الْإِمَامُ، وَقَدْ تَابَ فِيمَا يَزْعُمُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَمِّنَهُ الْإِمَامُ، فَلْيُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخْبَرَنِي مَكْحُولٌ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَعْطَاهُ الْإِمَامُ أَمَانًا، فَهُوَ آمِنٌ، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ مَا كَانَ أَصَابَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: كُلُّ مَنْ جَاءَ تَائِبًا مِنَ الحُرَّابِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، اسْتَأْمَنَ الْإِمَامَ فَأَمَّنَهُ أَوْ لَمْ يَسْتَأْمِنْهُ، بَعْدَ أَنْ يَجِيءَ مُسْتَسْلِمًا تَارِكًا لِلْحَرْبِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ إِلَى أَبِي مُوسَى، وَهُوَ عَلَى الْكُوفَةِ فِي إِمْرَةِ عُثْمَانَ، بَعْدَ مَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، هَذَا مُقَامُ الْعَائِذِ بِكَ، أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْمُرَادِيُّ، كُنْتُ حَارَبْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَسَعَيْتَ فِي الْأَرْضِ، وَإِنِّي تُبْتُ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرَ عَلَيَّ! فَقَامَ أَبُو مُوسَى فَقَالَ: هَذَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، وَإِنَّهُ كَانَ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَإِنَّهُ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، فَمَنْ لَقِيَهُ فَلَا يَعْرِضْ لَهُ إِلَّا بِخَيْرٍ. فَأَقَامَ الرَّجُلُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ فَأَدْرَكَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِذُنُوبِهِ فَقَتَلَهُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي مُوسَى، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: أَرَأَيْتَ هَذَا الْمُحَارِبَ الَّذِي قَدْ أَخَافَ السَّبِيلَ، وَأَصَابَ الدَّمَ وَالْمَالَ، فَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ تَمَنَّعَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ. قَالَ قُلْتُ: فَلَا يُتَّبَعُ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْدَاثِهِ؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ مَالٌ بِعَيْنِهِ فَيُرَدُّ إِلَى صَاحِبِهِ، أَوْ يَطْلُبُهُ وَلِيُّ مَنْ قَتَلَ بِدَمٍ فِي حَرْبِهِ يُثْبَتُ بِبَيِّنَةٍ أَوِ اعْتِرَافٍ فَيُقَادُ بِهِ. وَأَمَّا الدِّمَاءُ الَّتِي أَصَابَهَا وَلَمْ يَطْلُبْهَا أَوْلِيَاؤُهَا، فَلَا يَتَّبِعُهُ الْإِمَامُ بِشَيْءٍ قَالَ عَلِيٌّ، قَالَ الْوَلِيدُ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي عَمْرٍو، فَقَالَ: تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِذَا كَانَ مُحَارِبًا لِلْعَامَّةِ وَالْأَئِمَّةِ، قَدْ آذَاهُمْ بِحَرْبِهِ، فَشَهَرَ سِلَاحَهُ، وَأَصَابَ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ، فَكَانَتْ لَهُ مَنْعَةٌ أَوْ فِئَةٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِمْ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، أَوْ كَانَ مُقِيمًا عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَلَمْ يُتَّبَعْ بِشَيْءٍ مِنْهُ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو: سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَبِي عَمْرٍو وَمَالِكٍ لِلَيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: إِذَا أَعْلَنَ بِالْمُحَارَبَةِ الْعَامَّةَ وَالْأَئِمَّةَ، وَأَصَابَ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ، فَامْتَنَعَ بِمُحَارَبَتِهِ مِنَ الْحُكُومَةِ عَلَيْهِ، أَوْ لِحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَلَمْ يُتَّبَعْ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْدَاثِهِ فِي حَرْبِهِ مِنْ دَمِ خَاصَّةٍ وَلَا عَامَّةٍ، وَإِنْ طَلَبَهُ وَلِيُّهُ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: قَالَ اللَّيْثُ وَكَذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ الْمَدَنِيُّ، وَهُوَ الْأَمِيرُ عِنْدَنَا: أَنَّ عَلِيًّا الْأَسَدِيَّ حَارَبَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ وَأَصَابَ الدَّمَ وَالْمَالَ، فَطَلَبَتْهُ الْأَئِمَّةُ وَالْعَامَّةُ، فَامْتَنَعَ وَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَ تَائِبًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 53]. الْآيَةُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَعِدْ قِرَاءَتَهَا. فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَغَمَدَ سَيْفَهُ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا، حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ السَّحَرِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ قَعَدَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غِمَارِ أَصْحَابِهِ. فَلَمَّا أَسْفَرَ عَرَفَهُ النَّاسُ وَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيَّ، جِئْتُ تَائِبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيَّ! فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ. وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ حَتَّى أَتَى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فِي إِمْرَتِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: هَذَا عَلِيٌّ، جَاءَ تَائِبًا، وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَلَا قَتْلَ. قَالَ: فَتُرِكَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. قَالَ: وَخَرَجَ عَلِيٌّ تَائِبًا مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْبَحْرِ، فَلَقُوا الرُّومَ، فَقَرَّبُوا سَفِينَتَهُ إِلَى سَفِينَةٍ مِنْ سُفُنِهِمْ، فَاقْتَحَمَ عَلَى الرُّومِ فِي سَفِينَتِهِمْ، فَهُزِمُوا مِنْهُ إِلَى سَفِينَتِهِمُ الْأُخْرَى، فَمَالَتْ بِهِمْ وَبِهِ، فَغَرِقُوا جَمِيعًا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ مَعْقِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً قَالَ فِيرَجُلٍ سَرَقَ سَرِقَةً فَجَاءَ بِهَا تَائِبًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْخَذَ، فَهَلْ عَلَيْهِ حَدٌّ؟ قَالَ: لَا! ثُمَّ قَالَ: " {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} "، الْآيَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْبَرْقِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَعَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَا إِنَّ جَاءَ تَائِبًا لَمْ يَقْتَطِعْ مَالًا وَلَمْ يَسْفِكْ دَمًا، تُرِكَ. فَذَلِكَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: " {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} "، يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَسْفِكْ دَمًا وَلَمْ يَقْتَطِعْ مَالًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي ذَلِكَ، التَّائِبَ مِنْ حَرْبِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا بَعْدَ لِحَاقِهِ فِي حَرْبِهِ بِدَارِ الْكُفْرِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ حِرَابَتُهُ وَحَرْبُهُ وَهُوَ مُقِيمٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَدَاخِلٌ فِي غِمَارِ الْأُمَّةِ، فَلَيْسَتْ تَوْبَتُهُ وَاضِعَةً عَنْهُ شَيْئًا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَلَا مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ، بَلْ يُؤْخَذُ بِذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عُرْوَةَ عَمَّنْتَلَصَّصَ فِي الْإِسْلَامِ فَأَصَابَ حُدُودًا ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا، فَقَالَ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، لَوْ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمُ اجْتَرَأُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ فَسَادًا كَبِيرًا. وَلَكِنْ لَوْ فَرَّ إِلَى الْعَدُوِّ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا، لَمْ أَرَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ خِلَافَ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ مَا:- حَدَّثَنِي بِهِ عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ مَا فَرَّ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ فِيهِ أَمَانٌ يَعْنِي، الَّذِي يُصِيبُ حَدًّا، ثُمَّ يَفِرُّ فَيَلْحَقُ الْكُفَّارَ، ثُمَّ يَجِيءُ تَائِبًا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ كَانَتْ حِرَابَتُهُ وَحَرْبُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ فِي غَيْرِ مَنْعَةٍ مِنْ فِئَةٍ يَلْجَأُ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ تَوْبَتَهُ لَا تَضَعُ عَنْهُ شَيْئًا مِنَ الْعُقُوبَةِ وَلَا مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ. وَإِنْ كَانَتْ حِرَابَتُهُ وَحَرْبُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ هُوَ لَاحِقٌ بِدَارِ الْكُفْرِ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ كَانَ يَلْجَأُ إِلَى فِئَةٍ تَمْنَعُهُ مِمَّنْ أَرَادَهُ مِنْ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ تَوْبَتَهُ تَضَعُ عَنْهُ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ أَحْدَاثِهِ فِي أَيَّامِ حِرَابَتِهِ تِلْكَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَصَابَ حَدًّا أَوْ أَمَرَ الرُّفْقَةَ بِمَا فِيهِ عُقُوبَةٌ، أَوْ غُرْمٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُلْتَجِئٍ إِلَى فِئَةٍ تَمْنَعُهُ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَا يَضَعُ ذَلِكَ عَنْهُ تَوْبَتُهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِذَاقَطْعَ الطَّرِيقَ لِصٌّ أَوْ جَمَاعَةٌ مِنَ اللُّصُوصِ، فَأَصَابُوا مَا أَصَابُوا مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ يَلْجَأُونَ إِلَيْهَا وَلَا مَنْعَةٌ، وَلَا يَأْمَنُونَ إِلَّا بِالدُّخُولِ فِي غِمَارِ أُمَّتِهِمْ وَسَوَادِ عَامَّتِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، وَأُقِيمُ عَلَيْهِ حَدُّهُ مَا كَانَ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: ذَكَرْتُ لِأَبِي عَمْرٍو قَوْلَ عُرْوَةَ: "يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ مَا فَرَّ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ فِيهِ أَمَانٌ"، فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِنْ فَرَّ مِنْ حَدَثِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَعْطَاهُ إِمَامٌ أَمَانًا، لَمْ يَجُزْ أَمَانُهُ. وَإِنْ هُوَ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ سَأَلَ إِمَامًا أَمَانًا عَلَى أَحْدَاثِهِ، لَمْ يَنْبَغِ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَمَانًا. وَإِنْ أَعْطَاهُ الْإِمَامُ أَمَانًا وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِأَحْدَاثِهِ، فَهُوَ آمِنٌ. وَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يَطْلُبُهُ بِدَمٍ أَوْ مَالٍ رُدَّ إِلَى مَأْمَنِهِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ فَهُوَ آمِنٌ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ. قَالَ: وَإِنْ أَعْطَاهُ أَمَانًا عَلَى أَحْدَاثِهِ وَهُوَ يَعْرِفُهَا، فَالْإِمَامٌ ضَامِنٌ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عَقْلُ مَا كَانَ أَصَابَ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ، وَكَانَ فِيمَا عَطَّلَ مِنْ تِلْكَ الْحُدُودِ وَالدِّمَاءِ آثِمًا، وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: فَإِذَا أَصَابَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ لَهُ مَنْعَةٌ أَوْ فِئَةٌ يَلْجَأُ إِلَيْهَا، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، أَوْ كَانَ مُقِيمًا عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَلَمْ يُتَّبَعْ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْدَاثِهِ الَّتِي أَصَابَهَا فِي حَرْبِهِ، إِلَّا أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ شَيْءٌ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ فَيُرَدُّ إِلَى صَاحِبِهِ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ رَبِيعَةَ قَالَ: تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَلَا يُتَّبَعُ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْدَاثِهِ فِي حَرْبِهِ، إِلَّا أَنْ يَطْلُبَهُ أَحَدٌ بِدَمٍ كَانَ أَصَابَهُ فِي سِلْمِهِ قَبْلَ حَرْبِهِ، فَإِنَّهُ يُقَادُ بِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ الرَّقِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْحَجَّاجَ! إِنْ كَانَ لِيَفْقَهُ! أَمَّنَ رَجُلًا مِنْ مُحَارَبَتِهِ، فَقَالَ: انْظُرُوا هَلْ أَصَابَ شَيْئًا قَبْلَ خُرُوجِهِ؟ وَقَالَ آخَرُونَ: تَضَعُ تَوْبَتُهُ عَنْهُ حَدَّ اللَّهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِمُحَارَبَتِهِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ حُقُوقُ بَنِي آدَمَ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ عَنْهُ الرَّبِيعُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي، قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَوْبَةُ الْمُحَارِبِ الْمُمْتَنِعِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِجَمَاعَةٍ مَعَهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، تَضَعُ عَنْهُ تَبِعَاتِ الدُّنْيَا الَّتِي كَانَتْ لَزِمَتْهُ فِي أَيَّامِ حَرْبِهِ وحِرَابَتِهِ، مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، وَغُرْمٍ لَازِمٍ، وَقَوَدٍ وَقِصَاصِ، إِلَّا مَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ بِعَيْنِهِ، فَيُرَدُّ عَلَى أَهْلِهِ لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ الْمُمْتَنِعَةِ الْمُحَارِبَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، السَّاعِيَةِ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا عَلَى وَجْهِ الرِّدَّةِ عَنِ الْإِسْلَامِ. فَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ مُمْتَنِعٍ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، جَمَاعَةً كَانُوا أَوْ وَاحِدًا. فَأَمَّا الْمُسْتَخْفِي بِسَرِقَتِهِ، وَالْمُتَلَصِّصُ عَلَى وَجْهِ اغْتِفَالِ مَنْ سَرَقَهُ، وَالشَّاهِرُ السِّلَاحَ فِي خَلَاءٍ عَلَى بَعْضِ السَّابِلَةِ، وَهُوَ عِنْدَ الطَّلَبِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ تَابَ أَوْ لَمْ يَتُبْ مَاضٍ، وَبِحُقُوقِ مَنْ أَخَذَ مَالَهُ، أَوْ أَصَابَ وَلِيَّهُ بِدَمٍ أَوْ خَتْلٍ مَأْخُوذٌ، وَتَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ قِيَاسًا عَلَى إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ سِلْمٌ، ثُمَّ صَارَ لَهُمْ حَرْبًا، أَنَّ حَرْبَهُ إِيَّاهُمْ لَنْ يَضَعَ عَنْهُ حَقًا لِلَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ، وَلَا لِآدَمِيٍّ، فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ إِذَا أَصَابَ ذَلِكَ فِي خَلَاءٍ أَوْ بِاسْتِخْفَاءٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنَ السُّلْطَانِ بِنَفْسِهِ إِنْ أَرَادَهُ، وَلَا لَهُ فِئَةٌ يَلْجَأُ إِلَيْهَا مَانِعَةٌ مِنْهُ. وَفِي قَوْلِهِ: " {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} "، دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ، أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِي الْمُحَارِبِينَ، يَجْرِي فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ، دُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَدْ نَصَبُوا لِلْمُسْلِمِينَ حَرْبًا، وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ حُكْمًا فِي أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، دُونَ الْمُسْلِمِينَ وَدُونَ ذِمَّتِهِمْ، لَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْقِطَ إِسْلَامُهُمْ عَنْهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا أَوْ تَابُوا بَعْدَ قُدْرَتِنَا عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَمَا لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَفِي إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ إِسْلَامَ الْمُشْرِكِ الْحَرْبِيِّ يَضَعُ عَنْهُ، بَعْدَ قُدْرَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، مَا كَانَ وَاضِعَهُ عَنْهُ إِسْلَامُهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: "عَنَى بِآيَةِ الْمُحَارِبِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، حُرَّابَ أَهْلِ الْمِلَّةِ أَوِ الذِّمَّةِ، دُون مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ مُشْرِكِي أَهْلِ الْحَرْبِ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: "فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنَّ اللَّهَ غَيْرَ مُؤَاخِذٍ مَنْ تَابَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، السَّاعِينَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَغَيْرِهِمْ بِذُنُوبِهِ، وَلَكِنَّهُ يَعْفُو عَنْهُ فَيَسْتُرُهَا عَلَيْهِ، وَلَا يَفْضَحُهُ بِهَا بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَحِيمٌ بِهِ فِي عَفْوِهِ عَنْهُ، وَتَرْكِهِ عُقُوبَتَهُ عَلَيْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ وَوَعَدَ مِنَ الثَّوَابِ وَأَوْعَدَ مِنَ الْعِقَابِ "اتَّقُوا اللَّهَ" يَقُولُ: أَجِيبُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ بِالطَّاعَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَحَقِّقُوا إِيمَانَكُمْ وَتَصْدِيقَكُمْ رَبَّكُمْ وَنَبِيَّكُمْ بِالصَّالِحِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ " {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} "، يَقُولُ: وَاطْلُبُوا الْقُرْبَةَ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ. وَ "الوَسِيلَةُ": هِيَ "الفَعِيلَةُ" مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "تَوَسَّلْتُ إِلَى فُلَانٍ بِكَذَا"، بِمَعْنَى: تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ *** إِنْ يَأْخُذُوكِ، تكَحَّلِي وتَخَضَّبِي يَعْنِي بِـ "الوَسِيلَةِ"، الْقُرْبَةَ، وَمِنْهُ قَوْلٌ الْآخَرُ: إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا *** وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ح، وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ: " {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} "، قَالَ: الْقُرْبَةُ فِي الْأَعْمَالِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ح، وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ عَطَاءٍ: " {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} "، قَالَ: الْقُرْبَةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} "، قَالَ: فَهِيَ الْمَسْأَلَةُ وَالْقُرْبَةُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: " {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} "، أَيْ: تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} "، الْقُرْبَةَ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: خَبَّرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: " {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} "، قَالَ: الْقُرْبَةُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ قَوْلَهُ: " {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} "، قَالَ: الْقُرْبَةُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} "، قَالَ: الْمَحَبَّةُ، تَحَبَّبُوا إِلَى اللَّهِ. وَقَرَأَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 57].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ: وَجَاهِدُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَعْدَائِي وَأَعْدَاءَكُمْ فِي سَبِيلِي، يَعْنِي فِي دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ، وَهِيَ الْإِسْلَامُ. يَقُولُ: أَتْعِبُوا أَنْفُسَكُمْ فِي قِتَالِهِمْ وَحَمْلِهِمْ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْحَنِيفِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ، "لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"، يَقُولُ: كَيْمَا تَنْجَحُوا، فَتُدْرِكُوا الْبَقَاءَ الدَّائِمَ وَالْخُلُودَ فِي جَنَّاتِهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى "الفَلَاحِ" فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْوَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ جَحَدُوا رُبُوبِيَّةَ رَبِّهِمْ وَعَبَدُوا غَيْرَهُ، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ، وَمِنْ غَيْرِهِمُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، وَهَلَكُوا عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مِلْكُ مَا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا وَضِعْفَهُ مَعَهُ، لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ أَمْرَهُ، وَعِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَافْتَدَوْا بِذَلِكَ كُلِّهِ، مَا تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُمْ ذَلِكَ فِدَاءً وَعِوَضًا مِنْ عَذَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ، بَلْ هُوَ مُعَذِّبُهُمْ فِي حَمِيمِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَذَابًا مُوجِعًا لَهُمْ. وَإِنَّمَا هَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْن ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، سَوَاءٌ عِنْدَهُ فِيمَا لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَالْعِقَابِ الْعَظِيمِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، اغْتِرَارًا بِاللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَكَذِبًا عَلَيْهِ. فَكَذَّبَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِالَّتِي بَعْدَهَا، وَحَسَمَ طَمَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ وَلِجَمِيعِ الْكَفَرَةِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} "، يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَلَا تَطْمَعُوا أَيُّهَا الْكَفَرَةُ فِي قَبُولِ الْفِدْيَةِ مِنْكُمْ، وَلَا فِي خُرُوجِكُمْ مِنَ النَّارِ بِوَسَائِلِ آبَائِكُمْ عِنْدِي بَعْدَ دُخُولِكُمُوهَا، إِنْ أَنْتُمْ مُتُّمْ عَلَى كُفْرِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: " {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ} "، يُرِيدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهَا، وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا "لَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ" يَقُولُ: لَهُمْ عَذَابٌ دَائِمٌ ثَابِتٌ لَا يَزُولُ عَنْهُمْ وَلَا يَنْتَقِلُ أَبَدًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَإنَّ لَكُمْ بِيَوْمِ الشِّعْبِ مِنِّي *** عَذَابًا دَائِمًا لَكُمُ مُقِيمًا وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَعْمَى الْبَصَرِ أَعْمَى الْقَلْبِ، يَزْعُمُ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: " {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} "؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيْحَكَ، اقْرَأْ مَا فَوْقَهَا! هَذِهِ لِلْكُفَّارِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَنْ سَرَقَ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، فَاقْطَعُوا، أَيُّهَا النَّاسُ، يَدَهُ وَلِذَلِكَ رَفَعَ "السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ"، لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُعَيَّنِينَ. وَلَوْ أُرِيدُ بِذَلِكَ سَارِقٌ وَسَارِقَةٌ بِأَعْيَانِهِمَا، لَكَانَ وَجْهِ الْكَلَامِ النَّصْبَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ: (وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ). حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: فِي قِرَاءَتِنَا قَالَ: وَرُبَّمَا قَالَ: فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ (وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا). حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: فِي قِرَاءَتِنَا: (وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا). وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا مِنْ مَعْنَاهُ، وَصِحَّةِ الرَّفْعِ فِيهِ، وَأَنَّ " {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} " مَرْفُوعَانِ بِفِعْلِهِمَا عَلَى مَا وَصَفْتُ، لِلْعِلَلِ الَّتِي وَصَفْتُ. وَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "، وَالْمَعْنَى: أَيْدِيهِمَا الْيُمْنَى، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا" الْيُمْنَى. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا). ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي "السَّارِقِ" الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ سَارِقَ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا. وَذَلِكَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمِنْ قَالَ بِقَوْلِهِ. وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ، بِأَنَّ:- «رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِم». وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ سَارِقَ رُبْعِ دِينَارٍ أَوْ قِيمَتِهِ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ، الْأَوْزَاعِيُّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ. وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَائِشَة أنَّهَا قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا». وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ سَارِقَ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ عَشْرَةُ دَرَاهِم». وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ سَارِقَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْآيَةَ عَلَى الظَّاهِرِ، وَأَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أنَ يَخُصَّ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. وَقَالُوا: لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرٌ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي خَاصٍّ مِنَ السُرَّاقِ. قَالُوا: وَالْأَخْبَارُ فِيمَا قَطَعَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَرِبَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَارِقِ دِرْهَمٍ فَخَلَّى عَنْهُ، وَإِنَّمَا رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. قَالُوا: وَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ لَوْ أُتِيَ بِسَارِقِ مَا قِيمَتُهُ دَانِقٌ أَنْ يَقْطَعَ. قَالُوا: وَقَدْ قَطَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي دِرْهَمٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، عَنْ نَجْدَةَ الْحَنَفِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: " {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} "، أَخَاصٌّ أَمْ عَامٌّ؟ فَقَالَ: بَلْ عَامٌّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، قَوْلُ مَنْ قَالَ: "الْآيَةُ مَعْنِيٌّ بِهَا خَاصٌّ مِنَ السُّرَّاقِ، وَهُمْ سُرَّاقُ رُبْعِ دِينَارِ فَصَاعِدًا أَوْ قِيمَتِهِ"، لِصِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» ". وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ ذِكْرَ أَقْوَالِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلَلِهِمُ الَّتِي اعْتَلُّوا بِهَا لِأَقْوَالِهِمْ، وَالْبَيَانِ عَنْ أَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ، بِشَوَاهِدِهِ، فِي كِتَابِنَا "كِتَابِ السَّرِقَةِ"، فَكَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِإِعَادَةِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: " {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} "، يَقُولُ: مُكَافَأَةً لَهُمَا عَلَى سَرِقَتِهِمَا وَعَمَلِهِمَا فِي التَّلَصُّصِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ "نَكَالًا مِنَ اللَّهِ" يَقُولُ: عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى لُصُوصِيَّتِهِمَا. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: " {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} "، لَا تَرْثُوا لَهُمْ أَنْ تُقِيمُوا فِيهِمُ الْحُدُودَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَمْرٍ قَطُّ إِلَّا وَهُوَ صَلَاحٌ، وَلَا نَهَى عَنْ أَمْرٍ قَطُّ إِلَّا وَهُوَ فَسَادٌ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: "اشْتَدُّوا عَلَى السُّرَّاقِ، فَاقْطَعُوهُمْ يَدًا يَدًا، وَرِجْلًا رِجْلًا". وَقَوْلُهُ: "وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "وَاللَّهُ عَزِيزٌ" فِي انْتِقَامِهِ مِنْ هَذَا السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ مَعَاصِيهِ"حَكِيمٌ"، فِي حُكْمِهِ فِيهِمْ وَقَضَائِهِ عَلَيْهِمْ. يَقُولُ: فَلَا تُفَرِّطُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فِي إِقَامَةِ حُكْمِي عَلَى السُّرَّاقِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَرَائِمِ الَّذِينَ أَوْجَبْتُ عَلَيْهِمْ حُدُودًا فِي الدُّنْيَا عُقُوبَةً لَهُمْ، فَإِنِّي بِحِكْمَتِي قَضَيْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَعِلْمِي بِصَلَاحِ ذَلِكَ لَهُمْ وَلَكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "فَمَنْ تَابَ"، مِنْ هَؤُلَاءِ السُّرَّاقِ، يَقُولُ: مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ عَمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ، إِلَى مَا يَرْضَاهُ مِنْ طَاعَتِهِ "مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ"، وَ"ظُلْمُهُ"، هُوَ اعْتِدَاؤُهُ وَعَمَلُهُ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ سَرِقَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ "وَأَصْلَحَ"، يَقُولُ: وَأَصْلَحَ نَفْسَهُ بِحَمْلِهَا عَلَى مَكْرُوهِهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ-فِيمَا ذُكِرَ لَنَا- يَقُولُ: تَوْبَتُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْحَدُّ الَّذِي يُقَامُ عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ"، فَتَابَ عَلَيْهِ، يَقُولُ: الْحَدُّ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ حُيَيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ «: سَرَقَتِ امْرَأَةٌ حُلِيًّا، فَجَاءَ الَّذِينَ سَرَقَتْهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَرَقَتْنَا هَذِهِ الْمَرْأَةُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْطَعُوا يَدَهَا الْيُمْنَى. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتِ الْيَوْمَ مِنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمِ وَلَدَتْكِ أُمُّكِ! قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: "فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ". » وَقَوْلُهُ: "فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ"، يَقُولُ: فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ يُرْجِعُهُ إِلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، عَمَّا يَكْرَهُ وَيَسْخَطُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ. وَقَوْلُهُ: "إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ سَاتِرٌ عَلَى مَنْ تَابَ وَأَنَابَ عَنْ مَعَاصِيهِ إِلَى طَاعَتِهِ ذُنُوبَهُ، بِالْعَفْوِ عَنْ عُقُوبَتِهِ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَرْكِهِ فَضِيحَتَهُ بِهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ "رَحِيمٌ" بِهِ وَبِعِبَادِهِ التَّائِبِينَ إِلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُوَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ [يَعْنِي الْقَائِلِينَ]: " {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} "، الزَّاعِمِينَ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أَنَّ اللَّهَ مُدَبِّرٌ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَمُصَرِّفُهُ وَخَالِقُهُ، لَا يَمْتَنِعُ شَيْءٌ مِمَّا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِمَّا أَرَادَهُ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِلْكُهُ، وَإِلَيْهِ أَمْرُهُ، وَلَا نَسَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا وَلَا مِمَّا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، فَيُحَابِيهِ بِسَبَبِ قَرَابَتِهِ مِنْهُ، فَيُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِهِ، وَهُوَ بِهِ كَافِرٌ، وَلِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ مُخَالِفٌ، أَوْ يُدْخِلُهُ النَّارَ وَهُوَ لَهُ مُطِيعٌ لِبُعْدِ قَرَابَتِهِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَعْصِيَتِهِ بِالْقَتْلِ وَالْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُنُوفِ عَذَابِهِ، وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ، فَيُنْقِذُهُ مِنَ الْهَلَكَةِ، وَيُنْجِيهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ "وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، يَقُولُ: وَاللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى تَعْذِيبِ مَنْ أَرَادَ تَعْذِيبَهُ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَغُفْرَانِ مَا أَرَادَ غُفْرَانَهُ مِنْهُمْ بِاسْتِنْقَاذِهِ مِنَ الْهَلَكَةِ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ كُلِّهَا قَادِرٌ، لِأَنَّ الْخَلْقَ خَلْقُهُ، وَالْمُلْكَ مُلْكُهُ، وَالْعِبَادَ عِبَادُهُ. وَخَرَجَ قَوْلُهُ: " {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} "، خِطَابًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ مَنْ ذَكَرْتُ مِنْ فِرَقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا حَوَالَيْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا اسْتِعْمَالَ الْعَرَبِ نَظِيرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
|